الأحد، مارس 15، 2009

أين هو المبني للمجهول؟

من غرائب العربية الحديثة أن استعمال الفعل المبني للمجهول قد أصبح مجهولاً كاسمه. كلنا نتذكر الوقت الطويل الذي أمضيناه في صغرنا نذاكر صيغة المبني للمجهول للأفعال على كافة أوزانها. لكنا لم نستعمل هذه الصيغة في كتاباتنا المدرسية وغيرها مطلقاً. عندما بدأت تجاربي في الترجمة من اللغات الإنكليزية والفرنسية إلى العربية، لاحظت مدى تواتر هذه الصيغة في تلك اللغات وندرتها في العربية الحديثة. كما لاحظت جمالها وقدرتها على التعبير، على عكس ركاكة بدائلها في العربية الحديثة. لكن عندما عدت إلى كتب التراث العربي وجدت استخدامها يوازي في تواتره وجمال تعبيره ما ألفته في اللغات الأجنبية الحديثة
لست الآن في صدد العزف على الوتر القديم الحديث متأسياً من عجز العربية المزعوم عن التعبير عن الأفكار الحديثة المعقدة، زاعماً في الحين ذاته أن اللغات الأوروبية الحديثة أقدر على ذلك في مفرداتها وقواعدها. لن أجادل أبداً في حقيقة أن قوة أية لغة تأتي من قدرات مستخدميها على إحياء مفرداتها القديمة واستنباط أخريات جدد وتطوير قواعدها وتطبيقها كما يجب لها أن تطبق. لن يستطيع أحد، مهما كانت حجته، أن ينكر أن قراءة إحدى رسائل الجاحظ، مثلاً، أجلب للمتعة وأدعى لزيادة الثقة بالعربية من أي مقال حديث كُتِب في جريدة أم في مجلة مهما علا مستواهما الأدبي. والأحرى بنا أن نتعلم من الجاحظ بدل أن ننعته بالقدم ووعورة الألفاظ أو القرب الزمني من منابع العربية. فأهل بغداد في زمنه، أي القرن الثالث الهجري، لم يكونوا أحسن حالاً منهم اليوم لغة أو فصاحةً. لم تأخذ العربية أكثر من قرن بعد الفتوحات حتى أصبحت لغة المتعلمين وبعض سكان الصحراء. تعلم الجاحظ العربية في الكتّاب كما نتعلمها الآن في المدرسة
لنعد إلى المبني للمجهول حتى لا نكون ممن لا يجيدون سوى النوح والبكاء على ماض مجيد توّلى. والسؤال الآن هو: هل يمكننا إعادة الإعتبار لصيغة المبني للمجهول في الكتابات العربية الحديثة؟ ليس الإيجاب بالجواب الصعب على التحقيق، فالمبني للمجهول لا يختلف في صعوبة أو سهولة استخدامه عن المبني للمعلوم. فإذن لماذا أصبح المبني للمجهول مجهولاً بين أهله وفي أرضه. فإذا عُرِفت العلة سَهُل إيجاد دوائها
هنا أنوه إلى أن نظريتي الآتية الذكر في شرح سبب انحسار المبني للمجهول لم يُتَح لي الوقت بعد أن أدعمها بالحجة التاريخية الموثقة بالأمثلة والقرائن. فهي إذن لا تزال في طور الفكرة وإن كان لها وقع الحقيقة في أذنيّ. أقول هنا وكلي أسف أن أصابع الإتهام يجب أن تُوجًّه إلى البتكار الذي ندين له بالحضارة العالمية الحديثة. وأعني هنا الطباعة الآلية. فإن كان حفر الأحرف اللاتينية المنفصلة ورصفها سهلاً فإن الأحرف العربية مضاعفة الصعوبة في العدد والرصف. لنأخذ الأبجدية الإنكليزية مثالاً من أجل المقارنة. الأحرف الإنكليزية ستة وعشرون حرفاً، ولنضاعفها آخذين بالإعتبار شكلي الحرف الكبير والصغير. فطباعة أي نص مقروء بالإنكليزية، دون علامات التنقيط، لا يحتاج إلى أكثر من اثنين وخمسين مجسماً نافراً تُحفَر الحروف عليها. أما العربية فأبجديتها ثمانية وعشرون حرفاً، لكل منها أربعة أشكال،على الأكثر، حسب موقعها في الكلمة، أو أربعة وثلاثون شكلاً، على الأكثر، حسب الموقع والحركة والتشديد والتنوين. هذا إن لم نعر انتباهاً للهمزة ومواقعها وحركاتها، وللتاء المربوطة والألف المقصورة والمدة. حسابنا التقريبي هذا يقدّر حاجتنا من المجسمات النافرة اللازمة لطباعة أي نص عربي مقروء بتسعمائة واثنين وخمسين مجسماً. النتيجة إذاً واضحة لأي صاحب مطبعة يود أن يربح عيشه من طباعة كتب عربية في القرن التاسع عشر. باعتبار أن أول مطبعة آلية دخلت البلاد العربية كانت في أواسط ذلك القرن، واستمرت الحال هكذا إلى أواخر القرن العشرين
من الواضح لي، على الأقل، أن أصحاب الكتاب والناشرين وأصحاب المطابع لم يتوانوا في الإطاحة بالحركات والتنوين والشدة من النصوص المطبوعة إذا أرادوا أن تصل بضاعتهم إلى أكبر عدد من القراء وبسعر يقبله المشتري. لهذا فإن على قارئ العربية اليوم أن يحفظ كل الكلمات المتشابهة شكلاً وأن يراجع نفسه مرات عديدة عند قراءة أي نص إذا أراد أن يعرف معرفة صحيحة ماكتبه الكاتب. هذا إن لم نطلب من القارئ أن يحرك أواخر الكلمات حسب ماتقتضيه قواعد العربية الفصيحة. أضف إلى ذلك أن تعليم العربية الآن يضخم حصة الإعراب في انتباه وعمل الطالب ويهمل حق التأليف والتعبير أيما إهمال. نحن نفكك الجمل أكثر مما نركبها. وهذا لب المشكلة
ولكن ماعلاقة إهمال الحركات في الطباعة في اختفاء المبني للمجهول من كتاباتنا. إذا قارنا، مثلاً، بين "كَتَبَ - يَكْتُبُ"، وهي صيغة المبني للمعلوم، وبين "كُتِبَ – يُكْتَبُ"، وهي صيغة المبني للمجهول، لوجدنا العلامات الفارقة بين الصيغتين في الحركات. وبالتحديد يكمن الفرق في حركتي فاء الفعل وعينه في صيغة الماضي وفي حركتي حرف المضارعة وعين الفعل في صيغة المضارع. فإذا اصطلحنا أن كتابة حركات الحرفين المناسبين من الفعل هي علامة البناء للمجهول لسَهُل على القارئ معرفته، وأما علامة البناء للمعلوم فقد تكون اصطلاحاً إخفاء حركات الحرفين المناسبين. ولكن هل نطلب الآن من الكتاب والطباعين ماعجزوا عنه خلال قرنين من الزمن. الحقيقة أن الفرق الكبير بين ذلك الزمان وهذا هو حلول الكمبيوتر والطابعات الإلكترونية محل الألات الكاتبة والطباعة الآلية. إن إظهار حركتي الحرفين المناسبين من كل فعل لن يزيد من عمل الكاتب ولا من كلفة الطباع، بل يزيد من فهم القارئ وسهولة القراءة وقوة العربية على التعبير واستيعاب الترجمات من اللغات الأخرى. أما إظهار حركات الإعراب على أواخر الكلمات، وإن لم يزد كلفة الطباعة، فإنه يحتاج إلى تغيير أسلوب تدريسنا للغة العربية، وهذا ما يحتاج إلى وقت أطول وجهد أكبر
إن نظرة متفحصة لكافة أوزان الفعل في العربية تُظهِر النتيجة ذاتها، ألا وهي الحاجة إلى إضهار حركتي فاء الفعل وعينه في صيغة الماضي وحركتي حرف المضارعة وعين الفعل في صيغة المضارع من أجل التفرقة بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول
ولكن ماذا استخدمنا بدلاً عن المبني للمجهول في نصوصنا المطبوعة طيلة ما يقرب من قرنين من الزمن. لا أستطيع أن أخفي أن الحل كان ذكياً جداً ألا وهو الابتداء بالفعل "تمّ" ملحقاً بمصدر الفعل المراد التعبير عنه. فمثلاً، عوضاً عن استخدام الفعل "أُنشِأ" نقول "تمّ إنشاء"، وعوضاً عن "أُنهِي" نقول "تمّ إنهاء" وهكذا. وأخيراً أقول: إن قوة العربية تكمن في تعدد أفعالها جذراً وبناءً فلم لا نعيد الإعتبار إلى هذه الأفعال

هناك تعليقان (2):

  1. لطالما أزعجتني هذه المفردة: تم!
    أحييك!

    ردحذف
  2. طباعة النصوص على الطابعات الآلية مرحلة ثانوية لاحقة لمرحلة أولى، هي كتابة الكاتب للنص. وأي كاتب لن يضحي بصيغة "المبني للمجهول" - إذا كان يضفي على نصه قوة تعبيرية - كي يرضي أصحاب المطابع ودور النشر.

    لقد أرجعتَ المشكلة إلى سبب اقتصادي، وأرى أن السبب هو القارئ الساذج (وما أكثرهم اليوم) الذي جل همه أن يهجم على المعنى من وراء الجملة، فينتزعه انتزاعا تاركا وراءه كل الصور الجمالية والأساليب الفنية كجسم بلا روح.

    أشكرك.

    ردحذف